Skip to main content
x

موسم "نسف الأدمغة" بقلم د.ريتا عطالله

ليست الهجرة بجديدة على لبنان ، فهي من عمر كيانه ،إذ تعود جذورها إلى أواخر القرن التاسع عشر ، فلطالما طمح خليفة الفينيقيين إلى الإنتشار في مختلف أصقاع الأرض ، بعد أن ذاق الأمرين من عدم الإستقرار، وعانى من لوعة التهديد على أرضه ولم يعد قادراَ على تحمل هذا الواقع الدراماتيكي . وقد اجتاحت الهجرة مختلف المناطق اللبنانية ولم تكن محصورة بطائفة معينة ، خصوصا خلال فترة الحرب الأهلية الدامية التي قطعت أواصل الوطن ودفعت بالكثيرين إلى البحث عن الرزق والأمان والطمأنينة في بلاد الغربة ، بعد أن اعتصرالألم قلوبهم وأدمى السهر جفونهم ، مع تحطم آمالهم بحيث أصبحوا على الحضيض، ولم يعد لديهم أي بصيص أمل فاضطروا إلى مغادرة بلدهم الأم .

إلا أن هذه الأزمة التي يعود عمقها إلى مئات السنوات باتت هي الأخطر على الإطلاق في التاريخ الحديث ،لا سيما في الأعوام الثلاثة الأخيرة ،وقد نشرت الدولية للمعلومات أن عدد المهاجرين اللبنانيين الشرعيين بلغ نحو 62 ألفا" في العام 2019 ، مقارنة ب 42 ألفا" في العام 2018 ،ناهيك عن قوارب الهجرة والموت المعبأة بالمهاجرين غير الشرعيين ،الذين غامروا بحياتهم وبحياة أولادهم ،من أجل اللجوء إلى بلد يأويهم ويؤمن لهم أبسط حقوقهم في العيش الكريم .
أما عن موسم الهجرة هذا العام فسيكون مثمرا" لا محال، خصوصا" هجرة الأدمغة والكفاءات، التي لم تعد مقتصرة على الذكور بل غزت الجنس اللطيف ، وذلك بسبب الآزمات الحادة المتوالية التي عصفت بلبنان ،خصوصا جائحة الكورونا ، ثم الكارثة التي حلت بالوطن جراء إنفجار مرفأ بيروت، في الرابع من آب الماضي . وقد بلغ عدد المهاجرين43،764،وفق دراسة أعدتها الدولية للمعلومات ، خلال فترة لا تتعدى الإثني عشر يوما بعد الإنفجار النووي التاريخي الذي زلزل العاصمة، مخلفا مئتي ضحية والاف المصابين والمشردين وتضررمئات الآلاف من المنازل والمؤسسات ، الأمر الذي أجبر الكثيرين على بيع بيوتهم وممتلكاتهم بأزهد الأسعار، من أجل تأمين السيولة اللازمة للسفر، بعد ان خسروا مصدر رزقهم ، أو حجزت المصارف على أموالهم وباتوا غير قادرين على التصرف بقرشهم الأبيض الذي خبأوه ليومهم الأسود ، بالإضافة طبعا الى العديد من الأسباب والدوافع التي يصعب حصرها وعدها ومنها :الأزمة الإقتصادية الحادة التي يعاني منها البلاد والعباد، شح العملة الخضراء ،إنخفاض معدل الدخل الفردي وانحدار القوة الشرائية ،عامل اللإستقرار النقدي والتضخم ،الوضع غير الآمن ،عدم الثقة بالسياسيين الذين يتقاتلون على المراكز والمناصب في بلد يغوص في آتون من الفوضى والفقر، شيوع فساد مؤسسات الدولة وقلة الإعتماد على الكفاءة والمحسوبيات في تولي الوظائق العامة والتدرج الوظيفي ، إرتفاع المديونية العامة التي قاربت المئة مليار دولار،ضعف الأمن الغذائي والصحي وشبه غياب الدور الرعائي للدولة ، عدم وجود السياسات الداعمة في حالة البطالة ، عدم التوافق بين الفرقاء السياسيين وحالة الإذلال الدائم التي يعيشها المواطن اللبناني يوميا" ، سواء في السوبرماركت أو امام محطات الوقود، أو في الصيدليات، أو اثناء التسكع امام المصارف والمستشفيات ، كل هذه العوامل متضافرة حرمت اللبناني من حقه في الحياة الرغيدة والتلذذ بالكرامة الإنسانية .

وقد أشارت منظمة "الفاو" وبرنامج الأغذية العالمية ،في تقرير نشر في الثالث والعشرين من آذار المنصرم ، إلى أن لبنان هو من أكثر الدول المهددة بانعدام الأمن الغذائي، لجزء كبير من سكانه ،بعد أن أصبح أكثر من نصفهم يعيشون تحت خط الفقر المدقع ..

بعد هذا العرض ، لا بد من القول أن هذه العوامل متضافرة شجعت أصحاب الإختصاصات والكفاءات والعقول على الهجرة ، ودفعت بالعديد من تلامذة الجامعات إلى بذل أقصى جهودهم ، من أجل الحصول على منحة دراسية ليكملوا تخصصهم الجامعي في الخارج ، ومن ثم التسكع أمام أبواب السفارات الأجنبية، بغية ملء الإستمارات لنيل تأشيرة للسفر، بسبب عجزهم عن إيجاد العمل المناسب لاختصاصهم ، نتيجة الخلل الحاصل بين سوق التعليم وسوق العمل، إنعدام الرؤى والخطط المستقبلية ، غياب الإرشاد المهني في الوطن الأم مقابل الإمتيازات والتقديمات التي تؤمنها الدول المهاجر اليها ، والتي ستشكل ملاذا" لاستثمار طاقاتهم الفكرية ،نتيجة لشوقهم إلى الخلق والإبداع من جهة ، أوبسبب التطور العلمي والريادة التكنولوجية وتحول الإقتصاد العالمي نحو الإقتصاد المعلوماتي من جهة أخرى .


من خلال ما تقدم، يمكننا القول أن لبنان بات يصدرثروته البشرية التي تضاهي ثروته الطبيعية إلى مختلف أطياف الأرض ، إذ بدأ الكثيرون من الأطباء بترك عياداتهم ومرضاهم، كما حزم العديد من خريجي الهندسة والمعلوماتية والمحاماة والتمريض أمتعتهم للتوجه إلى الولايات المتحدة الأميركية أوكندا أواستراليا أودول اوروبا وفي طليعتها فرنسا والسويد والمانيا ،ولا يغيب عن عيوننا يوميا مشهد إنتقال الكثير من الإعلاميين المتألقين إلى محطات خارجية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الجزيرة والعربية والحرة وسكاي نيوز،بالإضافة الى العديد من الضباط والقضاة الذين تقاضوا رواتبهم التقاعدية وغادروا البلاد، بحثا عن فرص للعمل برواتب مالية أفضل وتأمين شبكة الأمان الإجتماعي لعائلاتهم لانهم لا يريدون ان يعيش أولادهم التجربة المذلة ذاتها التي اختبروها .

لا بد من الإشارة أن للهجرة إيجابيات وفوائد إقتصادية أهمها : تحسين عجلة الإقتصاد من خلال إرتفاع معدلات التحويلات المادية من المهاجرين إلى اهلهم وأقربائهم من أجل تأمين ظروف معيشية أفضل، فلبنان يحتل المرتبة الأولى في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا من حيث تلقيه التحويلات المالية من المغتربين في الخارج تليه بنغلادش ثم مالي فاثيوبيا ..

 

إلا أن للهجرة سلبيات كثيرة ،لذلك يجب العمل بسرعة على كبح فراملها ووتيرتها التصاعدية لأنها تشكل استنزافا للوطن ، فاليوم أضحى لبنان في خطر وجودي، إذ خيم شبح هجرة العقول على معظم بيوت اللبنانيين، وبذلك سيفرغ البلد من مواهبه التي انفقت عليها الأموال الطائلة من أجل تعليمها وصقلها وتطويرها ، كما أن الكثيرين باتوا ينتظرون إنتهاء العام الدراسي، بسبب عدم القدرة على تحمل هذا الواقع الدراماتيكي ، الأمر الذي سيخلق خللا في النسيج الاجتماعي وفي التوزيع الديمغرافي ،عبر استنزاف الوطن من العنصر الفتي الذي يعول عليه في التطور والتقدم، كونه العنصر الأكثر انتاجا ،بالإضافة طبعا إلى انتشار معدل العزوبية لدى الفتيات ،وانخفاض معدل الولادات والخصوبة ،وبالتالي تحول المجتمع اللبناني إلى مجتمع هرمي ،كون المهاجر لن يعود إلى وطنه إذا توفر له الإستقرار والمستوى المعيشي اللائق . فلمن سيترك هذا البلد ...للمعمرين والأرامل والأطفال ؟

في النهاية يمكننا القول أنه تقع على الدولة المسؤولية الأولى والأخيرة ، في إيقاف هجرة العقول النابغة ،عبر وضع السياسات الكفيلة بالحد من هذه الظاهرة المتنامية يوما بعد يوم ، من خلال تحقيق إصلاحات سريعة وضرورية ، تحسين العجلة الإقتصادية ، إستقطاب الإستثمارات خصوصا الأجنبية، خلق سياسات وقائية وبيئة حاضنة للإنتاج العلمي، وضع دراسة منهجية تواكب العصر، تطوير المنظومة العلمية المستقطبة للعنصر الشبابي، تخصيص ميزانية معينة للبحوث العلمية ورفع أجور الأشخاص المتفوقين لتشجيعهم على الإبتكار، معالجة الوضع الأمني المتدهور والمتفلت ، تحقيق التنمية المستدامة المتوازنة والشاملة بين المناطق وتعزيز قيم المواطنة وأهمية الإرتباط بالأرض .

د. ريتا عطالله
باحثة في علم النفس وعلم الإجتماع