Skip to main content
x
 سجناء الاعلام وظلال كهف الحقيقة بقلم د. آمال جبور

سجناء الاعلام وظلال كهف الحقيقة بقلم د. آمال جبور

تتبعثر الحقيقة بين وسائل الاعلام المختلفة ومنصات التواصل الاجتماعي مع تحولات سياسية واحداث مختلفة نراها على شاشات الفضائيات المتنوعة، المتخذةً مسارات ايدولوجية تخدم مصالح واهدافا خفية باتت معلنة للجاهل قبل العالم دون قيود اخلاقية لتضعنا مقيدين في اسطورة كهف الاعلام وظلاله.
هذه الوسائل بتشعباتها المختلفة، يطل منها اعلاميون وقادة شعوب وانظمة وساسة ومليشيات واحزاب واقتصاديون ومثقفون وأميون  ايضاً، وكلٌ يدعي الحقيقة ولا شيء سواها، وما الحقيقة منهم قريبة.   
في تاريخ الفكر الانساني تعددت الحقيقة ومدارسها الفلسفية مثيرة الجدل بين الفلاسفة والمفكرين، فمنهم من يراها ثابتة وتتميز بالوضوح والبداهة وتدرك بالعقل كما يراها افلاطون وارسطو وديكارت وابن رشد، مبررين رأيهم بالحجج والبراهين كل حسب ما جاءت به فلسفته، في حين يراها الرأي الاخر متغيرة ونسبية، ترتبط  بالإنسان ونسبة ادراكه لها، وبالواقع الذي يتميز بالتغيير. 
والادعاء بالحقيقة في ساحات الاعلام في عصر الرقمنة يستدعي اعمال العقل للبحث والتحليل والربط وتأكيد انه في خضم التدفق الهائل للمعلومات عبر الوسائط الاعلامية والتواصلية الاجتماعية، فان ما يقال عنه حقيقة لهو بالضرورة ملون بأطياف فكرية وايدولوجية وسياسية واقتصادية واجتماعية، فهي مُقنِعَة لاصحابها، ومرفوضه من الطرف الاخر، فكل معلومة يطلقها  طرف يعدها الحقيقة ولا شيء يشوبها، ويدعمها بادواته الاعلامية الصوتية منها والمصورة كوسيلة اثبات واقناع للناس بما يقدمه، واضعاً بذلك حاجزاً بين الحقيقة والوهم، وللاسف يتم تصديقها من الاغلبية التي تنساق نحو اللاوعي دون ان توضع في ميزان العقل لفلترتها ليلتمس بها طرف الحقيقة على اقل تقدير.
 وما يثير بعض العقول المتسائلة، ان انتشار ما يسمى حقائق مؤدلجة فكريا وسياسيا وعقائدياً واجتماعياً لها رصيد واف بين فئات المجتمع كافة لما يمتلك اصحابها من سلطة تحكم مداخل الوسائل الاعلامية ومخارجها، فيعملون على تجييش انتشارها لتأخذ مساحاتها الخصبة لاقناع العامة وتصديق تداولها ايضاً، فيما هي ظلال عابرة لها خبايا وويلات ممتدة عبرة سلسلة لا تنتهي، تحيلنا الى سؤال: الى متى يبقى العقل مستقيلا امام وسائل اعلام مزيفة ومؤدلجة للوقائع والاحداث، تتصارع بها المكاسب باشكالها المختلفة. 
  لذلك لا يمكن ان نحمل دوماً وسائل الاعلام نتائج استقالة العقل البشري امام ظلال الحقيقة التي تتعارك في ساحات الاعلام ومنصاته، هذا العقل الذي خلق ليضج بالتساؤلات والشكوك حول كل المعارف والافكار والمعلومات التي تساق امامه، باحثاًعن اعتاب الحقيقة ونفي الزائف منها، فأدوات العقل أحكم  للبحث والتنقيب للتقرب تصاعدياً الى الخيط الفاصل بين الحقيقة وظلالها. 
 وبما  اننا محاطون بكيانات ذكية ومندمجون في غلاف معلوماتي بوسائله الاعلامية التي اضحت تمثل القوى البيئية التي تحول واقعنا الى اوهام، فهل يستسلم العقل لهذا الواقع؟ وأين العقل المنفعل في خضم هذه التحولات؟
وللاسف فان اغلب عقول رواد " السوشل ميديا " اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي  مغلفة بغلاف سميك لا تنفذ اليه الادلة والبراهين العقلية، الا من خلال نطاق محدود يحكمه الاطار الفكري للبيئة التي ينشأ بها، حتى ولو قُدمت له الدلائل العقلانية، لوى عنقه باعتبارها مخالفه لما تألفه بيئته. 
 وبذلك يبقى الانسان سجينا لبيئته العقلية الراكدة، وحبيس سطوة وسائل الاعلام واسلحتها الملوثة، ومنساق العنق وراء من يمتطي المنصات الاجتماعية دون سرج فكري وثقافي وعقلاني. 
  ولعل افلاطون قدم قبل قرون اجمل صورة تحاكي واقعنا الحالي في وصف سجناء المنصات الاجتماعية الممتزجة للاسف مع وسائل الاعلام وايدولوجياتها واوهامها البعيدة عن الحقائق العلمية في اسطورة سماها" اسطورة الكهف " في تلك الأسطورة، يدعونا أفلاطون، إلى تخيل مجموعة من السجناء المحبوسين في هذا الكهف، مقيدي الأيدي والأرجل، لا يستطيعون الفكاك أو الالتفات إلى الخلف، فيما توجد خلفهم كوة يدخل منها نور الشمس، وتوجد بها كل الأشياء الحقيقية، لكنهم لا يستطيعون رؤيتها لأنهم مقيدون، لذا فإنهم يكتفون بالنظر أمامهم، ويرون ظلال الأشياء الموجودة خلفهم منعكسة في شكل صور أمامهم، وهكذا يألفون مع الوقت والعادة، رؤية تلك الظلال وكأنها حقائق.
 حسب أسطورة الكهف فإن السجناء هم نحن الموجودون في هذا العالم وبين ادواته الاعلامية المختلفة، والظلال تشير إلى أشباه الحقائق التي يفردها الاعلام امامنا، وما ألفناه على اعتبار انه الحقيقة، اما القيود فهي العادات والتقاليد والمعارف الشائعة التي تعلمناها من هذا الكهف الذي نعيش به، وهذا الكهف هو محيطنا وعالمنا وبيئتنا المسجونين بها، ولكن افلاطون يقدم شرطه للوصول إلى الحقيقة، وهو التخلص من تلك القيود التي تطالنا داخل كهف الاعلام ومنصاته المزيفة، والبحث عن الحقيقة والنور الساطع، بدل الاكتفاء بظلال الحقائق، فهل نستطيع ان نتخلص من قيودنا وتعي العقول الاعلام المزيف المجتزىء للحقائق